ابو صير وابو قير يحكى أنّ رجلين كانا في الإسكندرية ،وكان أحدهما صباغاً، واسمه أبو قير وكان الثاني حلاقا ،واسمه أبو صير
الجزء السادس
وأمّا ما كان من أمر أبي قير فأنه لما سمع جميع الخلائق يلهجون بذكر الحمام وكل منهم يقول: إن هذا الحمام نعيم الدينا بلا شك إن شاء الله يا فلان تدخل بنا غداً هذا الحمام النفيس فقال أبو قير في نفسه: لا بد أن أروح مثل الناس وأنظر هذا الحمام الذي أخذ عقول الناس ثم أنه لبس أفخر ما كان عنده من الملابس وركب بغلةً وأخذ معه أربعة عبيدٍ وأربعة مماليكٍ يمشون خلفه وقدامه وتوجه إلى الحمام ثم أنه نزل في باب الحمام فلما صار عند الباب شم رائحة العود والند ورأى ناساً داخلين وناساً خارجين ورأى المصاطب ملآنة من الأكابر والأصاغر فدخل الدهليز فرآه أبو صير فقام إليه وفرح به فاندهش أبو قير لرؤيته ،وحسده على ما فيه من نعمة،فقرر الكيد له ،وقال م لقد فتحت صبغة ،وبقيت معلّم البلد وتعرّفت بالملك ،وصرت في سعادةٍ وسيادةٍ ، وأنت لا تأتي عندي ، وأنا أفتّش عليك ،وأبعث عبيدي يفتشون عليك ولم يعرفوا طريقك.
ردّ أبو صير: ويحك، أما جئت إليك ،وعملتني لصّا ،وضربتني ،وفضحتني بين النّاس !!! فتصنع أبو قير الحزن، وقال: هل أنت الذي ضربتك؟ فقال أبو صير: نعم هو، أنا فحلف له أبو قير ألف يمينٍ أنّه ما عرفه وقال: إنما كان واحدٌ شبيهك يأتي في كل يومٍ ويسرق قماش النّاس فظننت أنك هو وصار يتندم ويضرب كفاً على كفٍ، ويقول: لا حول ولا قوّة إلا بالله ، ولكن يا ليتك عرّفتني بنفسك وقلت أنا فلان فالعيب عندك ،خصوصاً وأنا مشغول كما رأيت، فقال له أبو صير: سامحك الله يا رفيقي وهذا الشّيء كان مقّداراً في الغيب والجبر على الله، ادخل الحوض. واغتسل، وأنا أكبسك !!! فأجابه: بالله عليك أن تسامحني يا أخي فقال له: أبرأ الله ذمّتك ،وسامحك. ثمّ قال له أبو قير: ومن أين لك هذه السّيادة ؟ فردّ : الذي فتح عليك ،فتح عليّ ،فإنّي طلعت إلى الملك ،وأخبرته بشأن الحمّام فأمر ببنائه فقال له: وكما أنه لك معرفةٌ بالملك فأنا الأخر عرفته، وقد أحبّني الملك هو وجميع رجال دولته، وأعطاني كذا وكذا ،وأخبره بالخبر الذي فيه،
فلمّا خرج أحضر له الغداء والشربات وصار جميع الناس يتعجبون من كثرة إكرامه له، ثم بعد ذلك أراد أبو قير أن يعطيه شيئاً، فحلف أنه لا يأخذ منه شيئاً وقال له: استحي من هذا الأمر ،وأنت رفيقي وليس بيننا فرق. ثمّ أن أبا قير قال لأبي صير: يا رفيقي، والله أن هذا الحمام عظيمٌ ولكن صنعتك فيه ناقصةً فقال له: وما نقصها؟ فقال له: الدّواء من الزّرنيخ والجير الذي يزيل الشّعر بسهولة ،فاعمل هذا الدّواء فإذا أتى الملك فقدمه إليه وعلمه كيف يسقط الشعر فيحبك حباً شديداً ويكرمك، فقال له: صدقت إن شاء الله أصنع ذلك.
ثمّ أن أبا قير خرج وركب بغلته وذهب إلى الملك ودخل عليه وقال له: أنا ناصح لك يا ملك الزمان فقال له: وما نصيحتك؟ فقال: بلغني خبراً وهو أنك بنيت حماماً، قال: نعم قد أتاني رجلٌ غريبٌ فأنشأته له كما أنشأت لك هذه المصبغة وهو حمامٌ عظيمٌ وقد تزينت مدينتي، فقال أبو قير: وهل دخلته؟ قال: نعم، قال: الحمد لله الذي أنجاك من شرّ هذا الخبيث عدوّ الدّين ،وهو أبو صير، فقال له الملك: وما شأنه؟ قال له أبو قير: اعلم يا ملك الزّمان أنّك إن دخلته بعد هذا اليوم فأنّك تهلك، فسأله : لأيّ شيءٍ؟ فقال له: إن الحلاّق عدوّك ،فأنّه ما حمله على إنشاء هذا الحمّام إلا ليقتلك بالسّم،ويقول لك: هذا دهان لإزالة الشّعر .
و هذا الخبيث قد وعده سلطان النّصارى أنّه لو قتلك يفكّ له زوجته وأولاده المأسورين عنده ، وكنت مأسوراً معه في بلادهم ولكن أنا صبغت له حوائجه ، فقال الملك: أي شيءٍ تطلب؟ فطلبت العتق فأعتقني وجئت إلى هذه المدينة ورأيته في الحمّام فسألته كيف كان خلاصك وأهلك ؟ فقال: لم نزل مأسورين حتى سمعت ملك النصارى يقول من تحيل على قتل ملك المدينة الفلانية أعطيه كل ما يتمنى، فتقدمت أنا إليه وقلت له: إذا قتلت،ه هل تعتقني أنا وزوجتي وأولادي؟ فقال له: نعم ،أعدك بذلك، ثمّ أني اتّفقت وإياه على ذلك وأرسلني في سفينة إلى هذه المدينة وطلعت إلى هذا الملك فبنى لي هذا الحمام وما بقي لي إلا أن أقتله وأروح إلى ملك النصارى وافدي أهلي ..
فسألته، وما الحيلة التي دبّرتها في قتله ؟ رد عليّ: هي حيلة سهلة فأنه يأتي إلي في هذا الحمام وقد اصطنعت له شيئاً فيه سمٌ ،فإذا جاء أقول له: خذ هذا الدّواء وادهن به تحت إبطك، فيسقط الشعر ،فمتى فعل ذلك سرى السم إلى قلبه فيهلك ، فلما علمت هذا الكلام خفت عليك، لأن خيرك سابق عليّ ،وجئت لأخبرك به .
فلما سمع الملك هذا الكلام غضب غضباً شديداً وقال للصّباغ: اكتم هذا السّر، ثم ذهب إلى الحمام حتى يقطع الشّك باليقين، فلمّا دخل جاءه أبو صير وكبسه وبعد ذلك قال له: يا مولاي إنّي عملت دواءً لتنظيف الشّعر فطلب منه إحضاره، ولم شم الملكرائحته وجد أنّها رديئة، فصحّ عنده أنه سمٌ فغضب، وصاح على الأعوان وقال: أمسكوه فقبض عليه الأعوان وخرج الملك وهو يشتعل غضبا ،ولا أحدٌ يعرف السّبب، ومع شدة غضب الملك لم يخبر أحد،اً ولم يتجاسر أحدٌ أن يسأله..
…
لمتابعة القراءة اضغط على الرقم التالي في الصفحة التالية 👇